سورة النور - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


هذه سورة النور.. يذكر فيها النور بلفظه متصلاً بذات الله: {الله نور السماوات والأرض} ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة؛ ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير.
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف، ومن آداب وأخلاق: {سورة أنزلناها وفرضناها. وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون}.. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية..
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله.. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية، وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور الله الذي أشرقت به الظلمات. في السماوات والأرض، والقلوب والضمائر، والنفوس والأرواح.
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط:
الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به؛ ويليه بيان حد الزنا، وتفظيع هذه الفعلة، وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة، فلا هي منهم ولا هم منها. ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه؛ واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة. ثم حديث الإفك وقصته.. وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات، ومشاكلة الطيبين للطيبات. وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء.
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم. والحض على إنكاح الأيامى. والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء.. وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور، ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية.
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة، فيربطها بنور الله. ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله.
وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب؛ أو كظلمات بعضها فوق بعض. ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق: في تسبيح الخلائق كلها لله. وفي إزجاء السحاب. وفي تقليب الليل والنهار. وفي خلق كل دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار..
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعة والتحاكم. ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم. ويعدهم، على هذا، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين.
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء. وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة، مع رئيسها ومربيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم. وهو بكل شيء عليم.
والآن نأخذ في التفصيل.
{سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون}..
مطلع فريد في القرآن كله. الجديد فيه كلمة {فرضناها} والمقصود بها فيما نعلم توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء. ففريضة الآداب والأخلاق فيها كفريضة الحدود والعقوبات. هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين.
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا؛ وتفظيع هذه الفعلة، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:
{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة؛ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك؛ وحرم ذلك على المؤمنين}..
كان حد الزانين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعيير. وكان حد الرجل الأذى بالتعيير.
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور. فكان هذا هو السبيل الذي أشارت إليه من قبل آية النساء.
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء. وهو الذي لم يحصن بالزواج. ويوقع عليه متى كان مسلماً بالغاً عاقلاً حراً. فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم.
وقد ثبت الرجم بالسنة. وثبت الجلد بالقرآن، ولما كان النص القرآني مجملاً وعاماً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم الزانيين المحصنين، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن.
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن. والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم. كما أنه هناك خلافاً فقهياً حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده. وحول حد الزاني غير الحر.. وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا، يطلب في موضعه من كتب الفقة.. إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع. فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد، وعقوبة المحصن هي الرجم. ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها، فهو جدير بتشديد العقوبة، بخلاف البكر الغفل الغر، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير.. وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل. فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر. فهو حري بعقوبة كذلك أشد.
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده كما سلف فيشدد في الأخذ به، دون تسامح ولا هوادة:
{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.
فهي الصرامة في إقامة الحد؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته، تراخياً في دين الله وحقه. وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها، فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:
{الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. وحرم ذلك على المؤمنين}..
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون. إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان. وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة؛ لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز. حتى لقد ذهب الإمام احمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة، وبين عفيف وزانية؛ إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر. وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني؛ واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: {وحرم ذلك على المؤمنين}.
وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة.
ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً يقال له: مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة. وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق. وكانت صديقة له. وأنه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله. قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال: فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظل تحت الحائط. فلما انتهت إليَّ عرفتني. فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد! فقالت: مرحباً واهلاً. هلم فبت عندنا الليلة: قال: فقلت: يا عناق حرم الله الزنا. فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانية، ودخلت الحديقة. فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت، فجاءوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا، فظل بولهم على رأسي، فأعماهم الله عني. قال: ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته؛ وكان رجلاً ثقيلاً؛ حتى انتهيت إلى الإذخر؛ ففككت عنه أحبله، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟- مرتين- فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليَّ شيئاً حتى نزلت {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «يا مرثد. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. فلا تنكحها».
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب، ونكاح المؤمنة للزاني كذلك. وهو ما أخذ ما أخذ به الإمام أحمد. ورأى غيره غير رأيه. والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه. وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة؛ وتقطع ما بينه وبينها من روابط. وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعاً!
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم، وجعلها جزءاً من ناموس الحياة الأكبر، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة، وعمارة الأرض، التي استخلف فيها هذا الإنسان.
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لا تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عش، وإنشاء حياة مشتركة، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية، تذهب بكل هذه المعاني، وتطيح بكل هذه الأهداف؛ وترد الكائن الإنساني مسخاً حيوانياً، لا يفرق بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. مسخاً كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة، وليس وراءها عمارة في الأرض، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان!
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. فأما الزنا وبخاصة البغاء فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية، والأشواق العلوية؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل؛ ويبديه عارياً غليظاً قذراً كما هو في الحيوان، بل اشد غلظاً من الحيوان. ذلك أن كثيراً من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة، في حياة زوجية منظمة، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا في بعض بيئات الإنسان!
دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا.. ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة، من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة.. وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد.. هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى.
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعاً غير مضطر.
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق..
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله صلى الله عليه وسلم-: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل. أو اعترافاً لا شبهة في صحته.
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحداً، لأنها غير قابلة للتطبيق. ولكن الإسلام كما ذكرنا لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة؛ وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر؛ وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب. فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة. ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود. أو الذين يرغبون في التطهير بإقامة الحد عليه كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية. وقد جاء كل منهما يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي مراراً؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات. ولم يعد بد من إقامة الحد، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب».
فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة، وعلى الآداب الإنسانية، وعلى الضمير البشري. وهي رأفة مصطنعة. فالله أرأف بعباده. وقد اختار لهم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية، فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى..
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه. والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة كما قلنا إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من من رائحة الجريمة.
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة. ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون}..
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكاراً بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بريئة او بريئاً بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمناً! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار.
وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق.
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.
لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهماً لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحاً. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف، بعد الحد، مصلتة فوق رأسه، إلا أن يتوب:
{إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}..
وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء: هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها، فيرفع عنه وصف الفسق، ويظل مردود الشهادة؟ أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة.. فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق. وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته، وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف؛ فحينئذ تقبل شهادته.
وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف.
وبذلك يمحي آخر أثر للقذف. ولا يقال: إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحاً؛ ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود.. بذلك يبرأ العرض المقذوف تماماً، ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية؛ فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان.
ذلك حكم القذف العام. ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته. فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات. والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقاً لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه. لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خ


إن الإسلام كما أسلفنا لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية. ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة..
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة. مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة..
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون.. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات.
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء. فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء.. وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء.
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام.
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيهآ أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. وإن قيل لكم: ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم، والله بما تعملون عليم. ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم. والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}..
لقد جعل الله البيوت سكناً، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم. وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان، يجعل أعينهم تقع على عورات؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات؛ وتهيِّئ الفرصة للغواية، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً، فيدخل الزائر البيت. ثم يقول: لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد. وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل. وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة، حين تقع العين على ما يثير.
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي. أدب الاستئذان على البيوت، والسلام على أهلها لإيناسهم، وإزالة الوحشة من نفوسهم، قبل الدخول:
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}..
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به، واستعداداً لاستقباله. وهي لفتة دقيقة لطيفة، لرعاية أحوال النفوس، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار.
وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون. فإن لم يكن أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان، لأنه لا دخول بغير إذن:
{فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم}..
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول؛ فإنما هو طلب للإذن. فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار:
{وإن قيل لكم: ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}..
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين.
{والله بما تعملون عليم}.. فهو المطلع على خفايا القلوب؛ وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات.
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان، دفعاً للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية:
{ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم}..
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.. فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم. وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب، وامتثالها لذلك الأدب العالي، الذي يأخذها الله به في كتابه، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه.
إن القرآن منهاج حياة. فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية، ويمنحها هذه العناية، لأنه يعالج الحياة كلياً وجزئياً، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج. فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكناً. ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة، والضيق بالمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات.. وهي عورات كثيرة، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة.. إنها ليست عورات البدن وحدها. إنما تضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد.
وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!.
وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات، يدبرها الشيطان، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية، والقلوب الناصحة، هنا أو هناك!
ولقد رعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي بإسناده عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. ثم قال رسول الله صلى الله عليع وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فقال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة».. الخ الحديث.
وأخرج أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ وكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم. السلام عليكم.» ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.
وروى أبو داود كذلك بإسناده عن هذيل قال: جاء رجل قال عثمان: سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن. فقام على الباب قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم-: «هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر».
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاه ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
وروى أبو داود بإسناده عن ربعي قال: أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم. أأدخل؟» فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
وقال هشيم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء؛ فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ قالت: ادخل بسلام. فأعاد. فأعادت. وهو يراوح بين قدميه. قال: قولي: ادخل. قالت: ادخل. فدخل!
وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم. فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن. قال: فراجعته أيضاً. فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فاستأذن.
وجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً.. وفي رواية: ليلا يتخونهم.
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً، فأناخ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عشاء يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة».
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء، المشرق بنور الله.
ونحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق تبلدت وغلظت. وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد يكون في البيت هاتف تليفون يملك أن يستأذن عن طريقه، قبل أن يجيء، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان، وعلى غير موعد. ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار!
ونحن اليوم مسلمون، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام. فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! ونطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!
ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نحن عبيد لعرف خاطئ، ما أنزل الله به من سلطان!
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدباً لنا في النفس، وتقليداً من تقاليدنا في السلوك.
فيعجبنا ما نراهم عليه أحياناً؛ ونتندر به أحياناً؛ ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل، فنفيء إليه مطمئنين.
وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر وإتقاء أسباب الفتنة العابرة يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها، بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة، وبدافع الحركة المعبرة، الداعية إلى الغواية:
{قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها؛ وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}..
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين. فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزنية المتبرجة، والجسم العاري.. كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون.. الخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! وبخاصة نظرية فرويد ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية الأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه.. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود. وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة. فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة. وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة تثير. والدعابة تثير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير. والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية.. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام. مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد!
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
{قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم. ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون}..
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر. أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى. ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة؛ بوصفهما سبباً ونتيجة؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. كلتاهما قريب من قريب.
{ذلك أزكى لهم}.. فهو أطهر لمشاعرهم؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها، وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: {إن الله خبير بما يصنعون}..
{وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}..
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}..
والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها. فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة. والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال.
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه. ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه. لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه».
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن}..
والجيب فتحة الصدر في الثوب. والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر. ليداري مفاتنهن، فلا يعرضها للعيون الجائعة؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها، ولكنها قد تترك كميناً في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي. وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكأن في الطاعة، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء. وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها. فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها».. وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة. قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن.
فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً. وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته. فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه. فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذب.. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال. فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات. على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة.. ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة. فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء، والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات.. كما يستثني النساء المؤمنات: {أو نسائهن} فأما غير المسلمات فلا. لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها. وفي الصحيحين: لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها. أما المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن امرأة مسلمة وزينتها.. ويستثني كذلك {ما ملكت أيمانهن} قيل من الإناث فقط، وقيل: ومن الذكور كذلك. لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته. والأول أولى، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان، مهما يكن له من وضع خاص؛ في فترة من الزمان.. ويستثني {التابعين غير أولي الإربة من الرجال}.. وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون. وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة. لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء... ويستثني {الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}.. وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس. فإذا ميزوا، وثار فيهم هذا الشعور ولو كانوا دون البلوغ فهم غير داخلين في هذا الاستثناء.
وهؤلاء كلهم عدا الأزواج ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة.
لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء. فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء.
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهيج الشهوات الكامنة، وتوقظ المشاعر النائمة. ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة:
{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}..
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها. فإن الخيال ليكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها، أو حليها، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته. كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها رداً. والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله. لأن منزله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق. وهو اللطيف الخبير.
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
بذلك يثير الحساسية برقابة الله، وعطفه ورعايته، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله، وبتقواه..
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجاً نفسياً وقائياً. ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة، لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية.. هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج، والمعاونة عليه؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائياً: {وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. والله واسع عليم. وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله. والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم؛ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.. إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامداً غير مضطر.
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين.. والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: {والصالحين من عبادكم وإمائكم}.
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم. ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب. ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا مع هذا أن الإسلام بوصفه نظاماً متكاملاً يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجاً أساسياً؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات.. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقاً على الدولة واجباً للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي بعد ذلك أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقاً عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالاً ونساء فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف».
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله}.. {والله واسع عليم}.. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزاً من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالباً في طريق الإحصان.
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية.
وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
{والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم. إن علمتم فيهم خيراً}..
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}. ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيراً. والخير هو الإسلام أولاً. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كَلاً على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقاً إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:
{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. إن أردن تحصناً. لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة. وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.


في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري. ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور. عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ. وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول. عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف. وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات. وعالجها بالوسائل الواقية: بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة. ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق.. كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق.
وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ، ومن اضطراب في المقاييس، وقلق في النفوس. فإذا نفس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئنة هادئه. وإذا نفس عائشة رضي الله عنها قريرة راضية. وإذا نفس أبي بكر رضي الله عنه سمحة صافية. وإذا نفس صفوان بن المعطل رضي الله عنه قانعة بشهادة الله وتبرئته. وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة. وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه. فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته..
بهذا التعليم.. وهذا التهذيب. وهذا التوجيه. عالج الكيان البشري، حتى أشرق بالنور؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء؛ واستشرف النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور:
{الله نور السماوات والأرض}..
وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء، فيغمر الكون كله، ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛ وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح. ويسبح كل شيء في الفيض الغامر، ويتطهر كل شيء في بحر النور، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، ولقاء ومعرفة، وامتزاج وألفه، وفرح وحبور. وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب..
{الله نور السماوات والأرض}..
النور الذي منه قوامها ومنه نظامها.. فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها.. ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور! ولا مادة لها إلا النور! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون.
كان يدركها كلما شف ورف، وانطلق إلى آفاق النور. ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف، نافض كفيه من الناس، عائذ بوجه ربه يقول: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة» وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج. فلما سألته عائشة: هل رأيت ربك؟ قال: «نور. أنى أراه».
ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلاً على تلقي ذلك الفيض الغامر دائماً، ولا يستشرف طويلاً ذلك الأفق البعيد. فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي، عاد يقارب مداه، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود، في مثل قريب محسوس:
{مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور}..
وهو مثل يقرب للإدراك المحدود؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس، حين يقصر عن تملي الأصل. وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير.
ومن عرض السماوات والأرض إلى المكشاة. وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قوياً متألقاً: {كمشكاة فيها مصباح}.. {المصباح في زجاجة}.. تقيه الريح، وتصفي نوره، فيتألق ويزداد.. {الزجاجة كأنها كوكب دري}.. فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة.. هنا يصل بين المثل والحقيقة. بين النموذج والأصل. حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير.. وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج. إلى المصباح:
{يوقد من شجرة مباركة زيتونة} ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون. ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل. إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة. ظلال الوادي المقدس في الطور، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب. وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} وهي شجرة معمرة، وكل ما فيها مما ينفع الناس. زيتها وخشبها وورقها وثمرها.. ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير. فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة. إنما هي مثل مجرد للتقريب: {لا شرقية ولا غربية}.. وزيتها ليس زيتاً من هذا المشهود المحدود، إنما هو زيت آخر عجيب: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}.
فهو من الشفافية بذاته، ومن الإشراق بذاته، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق؛ {ولو لم تمسسه نار}.. {نور على نور}.. وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف!
إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض. النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه. إنما هي محاولة لوصل القلوب به، والتطلع إلى رؤياه: {يهدي الله لنوره من يشاء}.. ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه. فهو شائع في السماوات والأرض، فائض في السماوات والأرض. دائم في السماوات والأرض. لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب رآه. وحيثما تطلع إليه الحائر هداه. وحيثما اتصل به وجد الله.
إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك، وهو العليم بطاقة البشر:
{ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم}..
ذلك النور الطليق، الشائع في السماوات والأرض، الفائض في السماوات والأرض، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة:
{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب}..
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه او المتقارب. وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله.
تلك البيوت {أذن الله أن ترفع} وإذن الله هو أمر للنفاذ فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهرة رفيعة. يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض. وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء. وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله: {ويذكر فيها اسمه}. وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة، المسبحة الواجفة، المصلية الواهبة. قلوب الرجال الذين {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}.. والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء. ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العباد في الزكاة: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}.. تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب. وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله:
{ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله}..
ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} من فضله الذي لا حدود له ولا قيود.
في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض، المتبلور في بيوت الله، المشرق في قلوب أهل الإيمان.. يعرض السياق مجالاً آخر. مجالاً مظلماً لا نور فيه. مخيفاً لا أمن فيه. ضائعاً لا خير فيه. ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار:
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب. ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}..
والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين، حافلين بالحركة والحياة.
في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعاً كاذباً، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلاً عما ينتظره هناك.. وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة.. فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك.. يصل. فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال: {ووجد الله عنده}! الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه. وجده هنالك ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصماً له من بني البشر لروّعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد. فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟
{فوفاه حسابه}.. هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة، {والله سريع الحساب}.. تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع!
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب؛ ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي. موج من فوقه موج. من فوقه سحاب. وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام!
إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون. وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى. ومخافة لا أمن فيها ولا قرار.. {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.. ونور الله هدى في القلب؛ وتفتح في البصيرة؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض. فمن لم يتصل بهذا النور فهو ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه. ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان. إن هدى الله هو الهدى. وإن نور الله هو النور.
ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح. مشهد يتمثل فيه الوجود كله، بمن فيه وما فيه، شاخصاً يسبح لله، إنسه وجنه، أملاكه وأفلاكه، أحياؤه وجماده.
وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه:
{ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، والطير صافات. كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون}..
إن الإنسان ليس مفرداً في هذا الكون الفسيح؛ فإن من حوله، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال.. إخوان له من خلق الله، لهم طبائع شتى، وصور شتى، وأشكال شتى. ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده: {والله عليم بما يفعلون}..
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض، وهم يسبحون بحمده وتقواه؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه. ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله: {كل قد علم صلاته وتسبيحه}.. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه؛ وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة.
وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجهاً كله إلى خالقه، مسبحاً بحمده، قائماً بصلاته؛ وإنه لكذلك في فطرته، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه. وإن الإنسان ليدرك حين يشف هذا المشهد ممثلاً في حسه كأنه يراه؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله. وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه.. كذلك كان محمد بن عبد الله صلاة الله وسلامه عليه إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه. وكذلك كان داود عليه السلام يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير.
{ولله ملك السماوات والأرض، وإلى الله المصير}..
فلا اتجاه إلا إليه، ولا ملجأ من دونه، ولا مفر من لقائه، ولا عاصم من عقابه، وإلى الله المصير.
ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين؛ وفيها متعة للنظر، وعبرة للقلب، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، وفي دلائل النور والهدى والإيمان:
{ألم تر أن الله يزجي سحاباً، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً، فترى الودق يخرج من خلاله. وينزل من السماء من جبال فيها من برد، فيصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}...
والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع. كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه، وبعثه إلى التأمل والعبرة، وتدبر ما وراءها من صنع الله.
إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان.
ثم تؤلف بنيه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.. ومشهد السحب كالجبال لا يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقاً، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس، إلا بعد ما ركبوا الطائرات.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.. وتكملة المشهد الضخم: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريق التناسق في التصوير.
ثم مشهد كوني ثالث: مشهد الليل والنهار:
{يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله. والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير؛ ليواجه القلب هذا الكون دائماً بحس جديد، وانفعال جديد. فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري، وهو يتأملها أول مرة. وهي هي لم تتغير؛ ولم تفقد جمالها وروعتها. إنما القلب البشري هو الذي صدئ وهمد، فلم يعد يخفق لها. وكم ذا نفقد من حياتنا، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حِسَّنَا وهي جديدة. أو وحِسُّنا هو الجديد!
والقرآن يجدد حِسَّنَا الخامد، ويوقظ حواسنا الملول. ويلمس قلبنا البارد. ويثير وجداننا الكليل؛ لنرتاد هذا الكون دائماً كما ارتدناه أول مرة. نقف أمام كل ظاهرة نتأملها، ونسألها عما وراءها من سر دفين، ومن سحر مكنون. ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا، ونتدبر حكمته في صنعته، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود.
إن الله سبحانه يريد أن يمن علينا، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره؛ فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة. فنظل نجد الكون مرات لا تحصى. وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد؛ ونستمتع به من جديد.
وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع. وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته، مستمدة من النبع الذي يستمد منه، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه. فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنساً وطمأنينة، وصلة ومعرفة، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب!
وإننا لنجد نور الله هناك. فالله نور السماوات والأرض.. نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير، والقلب المتفتح، والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير.

1 | 2